الاثنين، 30 مارس 2015

ثبات أبي بكــــــر الصديق أمام فتنة الموت

 ثبات أبي بكــــــر الصديق أمام فتنة الموت


                    الموت فتنة عظيمة، والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة، إلا أن الصديق رضي الله عنه، كان كما عودنا رابط الجأش، مطمئن القلب، ثابت القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته:
مات ابنه عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما شهيدًا، و تلقى الأمر بصبر عظيم، وبرضا واسع.
- وماتت أيضًا زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان رضي الله عنها، والدة السيدة عائشة رضي الله عنها، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه
ماتت في السنة السادسة من الهجرة في المدينة، بعد رحلة طويلة مع الصديق في طريق الإيمان، أسلمت قديمًا وعاصرت كل مواقف الشدة والتعب، والإنفاق، والإجهاد، والهجرة، والنصرة، والجهاد، والنزال،
كانت خير المعين لزوجها الصديق رضي الله عنه، ثم ماتت، وفارقت، وفراق الأحبة أليم، لكن صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبرًا جميلًا، وحمد واسترجع.
- ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربيه، مات حمزة بن عبد المطلب، ومات مصعب بن عمير، ومات أسعد بن زرارة، ومات سعد بن معاذ، ومات جعفر بن أبي طالب، ومات زيد بن حارثة، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين، ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فانتظر الصديق رضي الله عنه صابرًا غير مبدل:
{مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}
- وجاءت فتنة كبيرة، فتنة موته هو شخصيًا رضي الله عنه وأرضاه، ونام على فراش لا بد من النوم عليه، نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في لحظاته الأخيرة؟
ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟
ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟
هل جزع أو اهتز؟
حاشا لله، إنه الصديق رضي الله عنها وأرضاه، ها هو على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثبات، وثقة، واطمئنان: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار.
يحذره من التسويف، وتأجيل الأعمال الصالحة، ويحفزه على السبق الذي كان سمتًا دائمًا للصديق في حياته.
وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلًا،
وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني أخاف ألا ألحق بهم.
وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلتَ: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء.
ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه.
انظر إلى صدق الوصية، وحرص الصديق أن يصل إلى بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في خلافة هذه الأمة
ثم انظر إلى هذا الموقف العجيب، وهو ما يزال على فراش الموت، استقبل المثنى بن حارثة رضي الله عنه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه يطلب المدد لحرب الفرس، فإذا بالصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة موته، ولا تصده آلام المرض، وإذا بعقله ما زال واعيًا متنبهًا، وإذا بقلبه ما زال مؤمنًا نقيًا، وإذا بعزيمته، وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون، أسرع يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، يأمره وينصحه ويعلمه، قال:
اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة، وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم، وقد رأيتني مُتَوَفّى رسول الله وما صنعت، ولم يُصَب الخلق بمثله، وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى العراق (سيدنا خالد بن الوليد كان قد انتقل بجيشه من العراق إلى الشام)، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم.
أرأيتم كيف يكون الصديق رضي الله عنه وهو في هذه اللحظات الأخيرة؟
لم ينس الجهاد، ولم يشغل عن استنفار المسلمين، أرأيت كيف أنه وحتى اللحظة الأخيرة في حياته ما زال يعلم ويربي ويوجه وينصح؟
هذا هو الصديق الذي عرفناه.
ودخلت عليه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو في آخر اللحظات، ونفسه تحشرج في صدره، فآلمها ذلك، فتمثلت هذا البيت من الشعر:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
أي لا يغني المال عن الإنسان إذا جاء لحظة الوفاة، فخشي الصديق رضي الله عنه أن تكون قالت ما قالت ضجرًا، أو اعتراضًا، فتقول عائشة رضي الله عنها، فنظر إلى كالغضبان، ثم قال في لطف:
ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}
هكذا ما زال يربي ويعلم، ثم جاءوا لهم بأثواب جديدة كي يكفن فيها فردها، وأمر أن يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال:
إن الحي أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى.
هكذا بهذا الثبات العظيم، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وأن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
كل هذه الفتن تهون، وتضعف، وتتضاءل أمام الفتنة العظمى، والبلية الكبرى، والمصيبة القصوى التي لحقت به وبالمسلمين، لما مات ثمرة فؤاد الصديق، وخير البشر، وسيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله، لما مات النور المبين الذي أضاء الأرض بنبوته، وعلمه، وخلقه، ورحمته، لما مات رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم.
أعظم فتنة مرت بالصديق رضي الله عنه، وأعظم فتنة مرت بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكان من فضل الله على الصديق رضي الله عنه أنه مَنّ عليه بثبات يوازي المصيبة، وبوضوح رؤية يقابل الفتنة، وبنفاذ بصيرة يكشف البلوى، وينير الطريق للصديق ولمن معه من المسلمين.
وفي ثبات الصديق رضي الله عنه يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الصديق رضي الله عنه جملة قصيرة لكن عظيمة المعاني قال: كان الصديق رضي الله عنه كالجبل، لا تحركه القواصف، ولا تُزيله العواصف.